مؤسسة آفاق للدراسات والتدريب

جوهر الصداقة في العلاقات الدولية

د. أحمد قسوم
د. أحمد قسوم

د. أحمد قسوم

كُتب المقال يوم: 17 ديسمبر 2020

 

 

 

 

قررت الإدارة الأمريكية مؤخرا تسليط عقوبات اقتصادية ضد تركيا بحجة أن هذه الأخيرة اشترت أجهزة الدفاع الجوي الروسي س400 التي صُنعت خصيصا لمراقبة و تدمير محاربات حلف الناتو

تركيا   دولة ذات سيادة و عضو في حلف الناتو يجعل منها مبدئيا دولة صديقة. و لكن لم تشفع لها صداقتها و لا إعجاب ترمب بأردقان فقد اعتبرت مبادرتها بمثابة تحد خارق للقوانين الولاء لأمريكا و حلفائها.
و هذا الحدث يمكن أن نستشف منه أكثر من موعظة نلخصها فيما يلي :

قوة المؤسسات الامريكية :
+ استطاعت المؤسسات الامريكية أن تفرض هذه العقوبة على أيام قلائل من موعد مغادرة ترامب لكرسي الحكم الذي حاول بكل ما أوتي أن يستفرد به و أن لا يسلمه للرئيس الفائز في الانتخابات الأخيرة. وعادة ما يترك الرئيس المهزوم مثل هذه الملفات للإدارة التي تأتي من بعده. و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على استقرار المؤسسات داخل هذه الدولة و قوة آدائها.
فالدولة قائمة بذاتها و بقوانينها و باستراتيجياتها العميقة و المبدئية.

+ لو لم تقف هذه المؤسسات وقفة حازمة و بكل شفافية و جرأة ورفضت دعوى ترامب  بالتزوير بعد إعادة فرز الاصوات في بعض الولايات  لما أبطل الرئيس المهزوم بدون أدنى حرج الانتخابات و اقنع الشعب أنه هو الفائز خاصة  أنه تحصل على عدد هائل من اصوات الناخبين و لأخرج نفس السيناريو المعهود في دول العالم الثالث.
ولا عجب في ذلك فشهوة التسلط و الحكم جُبل عليها الانسان فكل من اُتيحت له الفرصة لذلك و قدر أظهرها و من عجز أضمر.

قبالرغم من أن ترمب يرأس أقوى دولة في العالم وأعرقها في الديمقراطية إلا أن الطبع غلب.

و لولا صلابة المؤسسات الإدارية الأمريكية وحيادها  لأختلطت الأوراق، و لكان موقفها الى جانب الرئيس الحالي الذي لا زال زمام الأمر و النهي بيده.

و لكن الكيان قوي و نخوة الحرية تجري في عروقهم.

فقد شهدنا الرئيس الأمريكي ترمب يشتكي من ظلم القضاة. فلله در الحرية.

و الذي حفظ أمريكا من هذا الانزلاق هي نفسها هذه المؤسسات التي أطاعته حينما لبس الشرعية و ردعته حينما أراد أن يتجاوزها.

أصول الصداقة الدولية

الصداقة التي تريد الدول الرائدة أن تمنحها للآخرين، في الحقيقة هي صداقة زائفة لا تسمن و لا تغني من جوع.
فهم يوهمون المستضعفين من الدول أنهم يقفون إلى جنباتهم حين المحن و يتبرعون عليهم بفضول منتجاتهم و يقرضونهم أموالا ليفرضوا عليهم  صرفها في سلع معينة و في مشاريع تتولاها شركاتهم. و تبيعهم تكنلوجيا يتحكمون في سر صنعتها حتى إذا أصابها عطب نادوا يا بائع ألْحق.

و الأدهى من ذلك أنهم يُخْضعونهم لشروط مجحفة تُغرقهم في وحل الدّين و تُكبّل حريتهم و تُكمم أفواههم و تُصادر سياساتهم الداخلية و الخارجية. مثال ذلك تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون و تدخله السافر في السياسة اللبنانية و الجزائرية.

فلا يحق لمبادرة سياسية دولية أن ترى النور إلا بإذنهم و لا عقد صفقة إلا بإشارتهم و قد يُقحمونهم في حروب لا ناقة لهم فيها و لا جمل. و لعل أن يكون مضمون التعديل الدستوري الجديد الذي يسمح  للجيش الجزائري  أن يشارك في عمليات حربية خارج حدوده مجراه من هذا  المنبع.

و القرار السيادي الذي مارسته الدولة التركية في عقد صفقة مع روسيا لاقتناء أجهزة الدفاع الجوي س 400  اعتبره اعضاء الناتو غير لائق. وثارت طبول المكر و الامبريالية العالمية تقرع بالوعيد و التهديد.
و بالنسبة للأتراك فهذا يُعد من قبيل تنوع التعاون و فتح آفاق جديدة للصناعة التركية كما أشار إليه الناطق الرسمي للرئيس أردوقان، إبراهيم كالين[1]يوم 15 ديسمبر 2020
و لكن تركيا بحكم موقعها الإستراتيجي و قوة ترسانتها العسكرية و استقرار اقتصادها وهي بمثابة  الثغر الشرقي المحروس لحلف الناتو   تتحدى حلفاءه حينا و تلوح بالتهدئة حينا آخر.

و حتى ترامب الذي كان يُبدي إعجابه الكبير بالرئيس التركي طيب أردوقان[2]لم يمنعه ذلك من الموافقة مؤخرا على فرض عقوبات اقتصادية على تركيا. و قد وُجهت خصوصا ضد شركة الصناعات الحربية التركية  SSB وتجميد الأموال الخاصة بمسؤوليها ومنعهم من دخول أراضيها. زيادة على منع رخص التصدير و القروض لهذه الشركة و قطع الغيار. كما تم إقصاء تركيا من برنامج تطوير طائرات ف35 الأمريكية خوفا من اكتشافها للأسرار الخاصة لهذه الطائرة الرهيبة.
و قد اعتبر كثير من الملاحظين السياسيين أن هذه العقوبات تعد خفيفة على تركيا. و لكن لما نعلم وزن هذه الشركة في ميدان التجارة الحربية و تطويرها  وعقد الصفقات و غيرها من الملحقات المتعلقة بهذا الفضاء نقف على حقيقة تأثير هذه العقوبة و إن كان الساسة الاتراك يحاولون التقليل من شأن هذه النتائج و يعلنون أن أكثر من 70 بالمائة من قطع الغيار متوفر محليا.

و تجدر الإشارة أن الصناعة الحربية التركية لا زالت تعتمد كثيرا على تكنولوجيا حلف الناتو و التعاون مع دوله.

و قد يقع الأتراك في الفخ الروسي الذي يُعتير هو الآخر دُب مفترس بالرغم ما يُذاع عنه أنه ليس من شيمته التخلي عن أصدقائه.

و عنوان الصداقة هذا هو الخدعة الكبرى التي تتبجح بها الامبريالية العالمية بمختلف ألوانه شرقا و غربا.

فهل ستتمكن السياسة التركية من تجاوز هذا التحدي السافر الغاشم الذي يقمع حرية الدول في أعز ما لديها ألا و هو سيادتها.

و هل ستتمكن تركيا من مواجهة الاتحاد الاوروبي الذي اتفق  يوم 11 ديسمبر 2020 ببروكسيل على فرض عقوبات خاصة بقائمة من الافراد الفاعلين في ميدان التنقيب على البترول في شرق البحر الأبيض المتوسط.
و تبدوا هذه العقوبات في ظاهرها تافهة و لا تعني شيئا  و لكننا يمكن أن نعتبرها رمزية و إنذارا لأنقرة و لأردوقان على وجه الخصوص الذي واجه الرئيس الفرنسي بكل قوة و نعته بنعوت قاسية. مما أثار ردود فعل بدون شك إنتقامية.

و قد أقر الاتحاد الاوروبي -بمبادرة فرنسية على وجه الخصوص- هذه العقوبات و توعد بتمديدها وضرب موعدا لشهر مارس 2021 لمعاينة تطور الأحداث  لينظر هل أنقرة ستعلن رضوخها و توبتها أم ستستمر في برنامجها بخطى هادئة لا تأبه لمنافسيها.
و بالرغم من أن ألمانيا منافس إقتصادي شرس لفرنسا و بالرغم من سعة التلويح بالصداقة الذي تبديه لتركيا  إلا أنها لا يمكنها أن تتخلى عن فرنسا لصالح تركيا لعدة اعتبارات استراتيجية.
و ما يزيد ربما المسألة تطويقا على تركيا هو فوز بيدن بالانتخابات الرئاسية الأمريكية الذي وعد بالعمل على توثيق العلاقات مع الدول الأوروبية و حلفائه في الناتو  على عكس ما كان عليه ترمب و لو بشكل نسبي.

فهل من الحكمة إذن أن تفتح تركيا كل هذه الجبهات في آن واحد و بُنيتها التحتية لم تستكمل بعد؟

أليس من الأفضل لها أن تعمل بصمت و تهيء جميع أدوات التمكين و التصنيع و التربية و التعليم و التشيبك قبل أن تتطلع لتوسيع رقعة نفوذها، التحدي جوهري و مفصلي و لن يدفعه إلا قوة رادعة أو سياسة متزنة.

 

[1]     Ibrahim KALIN : جريدة le monde 17/12/2020

[2]    جريدة le matin  14/11/2019 السويسرية.
« https://www.lematin.ch/story/trump-est-un-grand-fan-d-erdogan-“679945090053 »

 

 

عماد تاج الدين

1 comment

  • بداية موفقة، نأمل أن يجد هذا المولود من يحتضنه ويحميه من رياح الكورونا البشرية، والتوفيق لرئيس المركز وطاقمه.