مؤسسة آفاق للدراسات والتدريب

أزمةُ الكركارات: لماذا تشعرُ الجزائر بتهديد الحرب؟

جلال خشيب

في السياسة الدولية، لا يرتبطُ التهديد بإعلان الحرب وحسب

جلال خَشِّيبْ

كُتب المقال يوم: 27 نوفمبر 2020

 

 

 

قبل أيّام قليلة عرضت القناة الوطنية الجزائرية تقريراً مُتلفزاً لوزارة الدفاع يُظهر اختبار قوّات الدفاع الجزائرية لأولّ مرّة وبشكلٍ علنيٍ لنظام صاروخ إسكندر الباليستي المتطوّر، روسي الصنع، في منطقةٍ من مناطق الصحراء الجزائرية، يأتي ذلك متزامناً مع التصعيد الحادّ الجاري·، على مقربةٍ من الحدود الجنوبية الغربية للجزائر في ثغرة الكركارات جنوب الصحراء الغربية، بين قوّات الجيش المغربي وقوّات البوليساريو، التّي تُدعّم الجزائر حقّها وحقّ الشعب الصحراوي في تقرير المصير منذ طرد الإستعمار الأوروبي من شمال إفريقيا، الأمر الذّي يضع كلاًّ من الجارين الجزائر والمغرب على شفا مواجهة أخرى. أمّا الأمر المثير الذّي زاد من وتيرة التصعيد في هذه القضية القديمة العالقة، فقد كان متعلّقاً بالتأييد العربي الرسمي الواسع لتحرّكات المغرب العسكرية، ومن الجدير بالذكر، أنّ هذا التحرّك سبقه قبل أيّامٍ قليلةٍ إقدامُ الإمارات العربية المتحدّة على فتح قنصليةٍ لها بمدينة العيون، كإشارةٍ صريحةٍ منها بتأييد موقف المغرب واستعدادها للانخراط معه –بكلّ الوسائل- في حسم النزاع لصالحه. كلّ ذلك أدّى بالجزائر إلى استنفار قواتّها الثقيلة المتمركزة خصوصاً قرب الحدود الجنوبية لها مع المغرب، وفَردِ عضلاتها العسكرية علناً في هذا التوقيت.

على ضوء تصاعد نُذر المواجهة بين الجزائر والمغرب، يسعى هذا المقال لتقديم إجابةٍ منطقية عن الأسباب التّي تقف وراء الاستنفار العسكري للجزائر ورسائلها القويّة المُبطّنة للمغرب رغم أنّ الأخير لم يُعلن حرباً عليها ولم يشنّ عمليّته تلك على أراضيها، متسائلاً عن سبب اعتبار الجزائر للنظام المغربي مصدر تهديد، مُحاولاً في الوقت ذاته قراءة الخلفيات الدولية والإقليمية التّي تأتي في سياقها العملية العسكرية المغربية في هذا التوقيت بالضبط.

 

فراغٌ في العرش:

تأتي أحداث الكركارات في سياقٍ زمنيٍ مناسبٍ جدّا لنظام المخرن المغربي، إذ يُحاول المخزن انتهاز وضعٍ الفراغ الدولي والإقليمي الجديد لتعديل ميزان القوة الإقليمي لصالحه، بعد عقودٍ من ميَلان كفّته لصالح الجزائر.

فعلى المستوى الدولي، يعرف النظام الدولي حالة فراغٍ في القوة، تتنامى على نحوٍ تدريجي منذ منتصف العقد الماضي مع تراجع الريادة الأمريكية العالمية ومحاولة واشنطن تخفيف أعبائها العالمية وتركيز الثروة والقوة في أقاليمٍ حيويةٍ بعينها (شرق آسيا وشرق أوروبا) لمواجهة الخصوم الأكثر إلحاحا، أيْ الصين وروسيا الصاعدتيْن بقوة، وقد اتسّعت حالة فراغ القوة أو فراغ العرش (كما يُسميها الباحث ميلان بابيتش Milan Babic في إحدى دراساته الحديثة) منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وتبنّيه لطروحات تيّار الإنعزالية الجديدة الداعي إلى الانسحاب الأمريكي من مشكلات العالم وتوجيه القوة والثروة نحو الداخل (أمريكا أولاًّ) وكذا إعادة تعريف المجال الحيوي للولايات المتحدة بجعله أكثر انحصاراً وتركّزاً في القسم الغربي من العالم والأمريكيتيْن خصوصا. كانت سنواته الأربعة في البيت الأبيض كفيلةً بتزايد حالة الاضطراب العالمي ومحاولة قوى إقليمية ودولية صاعدة إعادة التموضع على نحوٍ أفضل في التشكيل الجيوبولتيكي القادم، هكذا، فإنّ الطموحات التركية في المتوسط وماوراء المتوسّط، التمدّد الروسي في الشرق الأوسط والصيني في العالم، حسم نزاع ناغورونو كاراباخ لصالح أذربيجان، التصعيد الاثيوبي ضدّ مصر في قضية سدّ النهضة وتلويحها بخيار الحرب، انفجار نزاع تيغراي، والآن نزاع الصحراء الغربية، كلّها قضايا مترابطة تأتي في زمنٍ يعيش فيه العالم فترة فراغ في العرش وتجد فيه هذه الفواعل فرصة التحرّك والتموضع قبل عودة الاهتمام الأمريكي العالمي بإدارة شؤون العالم على نحوٍ تدريجي كما هو محتمل بعد تولّي جو بايدن زمام البيت الأبيض وهو المعروف بتوجّهه الأُممي الليبرالي الداعي إلى الانخراط في الشوؤن العالمية والدفع بأمريكا لأن تقود العالم مُجدّدا. باختصار، يجد نظام المخزن فرصته السانحة الآن لحسم نزاع الصحراء الغربية لصالحه كما يظن.

على المستوى الإقليمي، يُدرك نظام المخزن المغربي وجود حالة فراغٍ إقليميةٍ وجب استغلالها لصالحه وتعديل ميزان القوة الإقليمي على حساب منافسه الجزائر، إذ تعرف الأخيرة غياباً إقليمياً بادياً للعيان منذ مرض رئيسها السابق بوتفليقة سنة 2013، فقد كان الرجل الأول المهيمن على مؤسّسة الخارجية الجزائرية، تسبّب غيابه في حدوث تراجعٍ دبلوماسيٍ جزائريٍ إقليمي، أحسنَ المغرب إلى حدٍّ ما استغلاله لصالحه عبر سياسته الافريقية الجديدة أو توسيع شبكة تحالفاته مع العرب الخليجيين خصوصا.

لا يُفسّر فراغ العرش الدولي والإقليمي لوحدهما سبّب اشتعال أزمة الصحراء الغربية بين المغرب والبوليساريو مجدّداً وكذا الاستنفار العسكري الذّي تعرفه الجزائر على حدودها الغربية هذه الأيام، فهناك “فراغٌ داخليٍ نسبيٍ في العرش” كذلك يعرفه الجاران الجزائري والمغربي، حيث تشهد الجزائر تراجعاً داخلياً سببه عدم الاستقرار السياسي الناتج بدوره عن تنامي صراع الأجنحة داخل علبة النظام منذ مرض الرئيس بوتفليقة. وبالرغم من إنتخابها رئيساً جديدا، إلاّ أنّ الأعباء الداخلية المروثة عن حقبة العشرين سنة الماضية من حكم بوتفليقة لا تزال تُبعد الجزائر عن آدائها لدورها الاقليمي الفعّال الذّي كانت تضطلع به من قبل، الأمر الذّي سمح -كما قلنا- للمغرب بأن يُقدم على خطواتٍ عسكريةٍ خطيرةٍ كهذه لحسم القضية الصحراوية بمنطق القوة ويحشد في صفّه حلفاء ضدّ موقف الجزائر وتصورّاتها تجاه قضايا المنطقة، لذا، لم تجد الجزائر حالياً سوى أن تُظهر استعداداً عسكرياً لتُثبت قدرتها على الدفاع عن أمنها القومي ومكانتها الإقليمية. في مقابل ذلك، يعرف المغرب أزمة حادّة في عرشه الملكي، حيث يَأخذ كثيرٌ من المغاربة على الملك الحالي زهده السياسي، مقارنةً بوالده، الأمر الذّي أثّر سلباً على موقف نظام المخزن في قضية الصحراء الغربية خلال السنوات الأخيرة، فالصراع القائم حالياً حول خلافة الملك محمد السادس بين داعمي إبنه وداعمي أخيه يجعل المخزن في حاجة إلى توجيه الرأي العام نحو قضيّةٍ قوميةٍ في نظر الشعب المغربي كقضية الصحراء الغربية، حتّى يتمكّن المخزن من ضمان انتقالٍ سلس للعرش وترسيخ أركان النظام المخزني دون صداماتٍ مُحتملَة تُهدّد أمن واستقرار البلد. لاشّك بأنّ الجزائر تُتابع هذا الصراع باهتمام وتعمل –كما عمل المخزن من قبل- على الاستثمار في هذه الأزمة الداخلية، بل وربّما توريط المخزن في حربٍ استنزاف مع البوليساريو لا قدرة للاقتصاد المغربي على تحمّلها.

 

سوابقٌ تاريخيةٌ خطيرة:

هل أعلن المغرب حالياً حرباً على الجزائر حتّى تعتبره الأخيرة تهديداً –أو العدو الكلاسيكي كما وصفه قائد أركانها قبل أيّام- وتتحرّك تُجاهه بهذا الشكل الصارم؟ لماذا يُشكّل تحرّك المغرب العسكري في الكاركارات تهديداً للأمن القومي الجزائري؟ في الحقيقة، لم يعلن المغرب الحرب على الجزائر وحسب بل شنّها من قبلُ فعلاً سنة 1963 مستغلاً حالة الإرهاق الذّي كانت عليه الجزائر حينها وهي تغادر لتوّها حقبةً من الكفاح الشاق الطويل ضدّ الكولونيالية الفرنسية، من المستحيل أن يتجاهل صنّاع القرار الحاليون هذه السابقة التاريخية أبداً حينما تُريد مُدركاتهم الأمنية تعريف المغرب وفقاً لأنماط الصداقة أو العداء، خاصّة وأنّ نظام المخزن المغربي يُبدي استعداده منذ تلك الحرب على مُمارسة فعل الاعتداء على الجزائر أو على حلفائها في الصحراء الغربية المُطالبين بحقوقهم المشروعة في تقرير المصير بموجب مواثيق الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي على حدٍّ سواء.

علاوة على ذلك، لا تزال منطقتيْ تيندوف وبشّار الجزائريتيْن الشاسعتين ضمن الأهداف المعلنة لنُخب المخزن، فالحدود السياسية في مدركات المخزن غير مُعرّفة المعالم إلى الآن، بل وتُروّج قوى المخزن لخرائط تشمل عمق الجزائر، موريتانيا وتصل إلى جنوب السنغال تزعم بأنّها أراضي تاريخية تابعة للمغرب، هذا هو مصدر التهديد بالنسبة للجزائر مستقرة الحدود السياسية، أيْ وجود جارٌ نهمٌ لا يريد أن يعرّف حدوده السياسية بشكل واضح ونهائي.

 

تحالفاتٌ عدائية:

تُمثّل طبيعة السياسات التّي يتبنّها المخزن من أجل تعزيز موقفه الإقليمي والظفر بالصحراء الغربية (التّي تشكّل اليوم خناقه الجيوبوليتيكي المُميت، خاصّة وأنّها المعبر الوحيد لتعزيز مكانته في القارة السمراء) تهديداً مباشراً للأمن القومي الجزائري، حيث تقوم هذه السياسات على نسج شبكةٍ من التحالفات مع قوى أجنبيةٍ من خارج الإقليم، وهي تحالفاتٌ مضرّة بالأمن الإقليمي للمنطقة بأكملها، ففي سعيه لضمّ الصحراء الغربية، التّي يُعرّفها بأنّها جزءٌ لا يتجزأ من أراضيه، يُجهّز نظام المخزن المغرب للتطبيع مع الكيان الصهيوني (الذّي لا تعترف الجزائر به)، هذا هو الثمن الذّي سيدفعه مقابل الهرولة العربية الرسمية الأخيرة لمساندة تحرّكاته ضدّ الصحراويين، تقود الإمارات قافلة التطبيع هذه بقوّة المال والإعلام الضاغطتيْن وبغطاءٍ يُوفّره حلفاء بن زايد ونتنياهو في البيت الأبيض، يأتي ذلك في اللحظات الأخيرة التّي سيغادر فيها ترامب المكتب البيضاوي بعدما كان بمثابة حجر الأساس في تجسيد حركة التطبيع العربية الراهنة مع إسرائيل وبشكلٍ صارمٍ قد لا يجرأ على مثله الرئيس المنتخب جو بادين، الديمقراطي الليبرالي الذّي تُحرجه ويلسونيته من فرض تطبيعٍ قسريٍ كهذا أو نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، تلك الخطوة الجريئة التي لن يُقدم عليها سوى رئيس بشخصية ترامب. إذا تمّ الأمر مع المغرب الآن، فلن يجد بايدن القادم سوى مُباركة الصفقة وتبنّي سياسة الأمر الواقع، خاصّة وأنّه سيرث قائمةً من التحدّيات المحليّة والدولية لن تكون فيها قضية الصحراء الغربية أبداً على رأس الأولويات. بإختصار، يريد المخزن اغتنام فراغ القوة العالمي ليتموضع بشكل أفضل -مهما كان الثمن- في التشكيل الجيوبوليتيكي القادم.

هكذا سيصير للجزائر حدود مع مكاتب الاستخبارات الاسرائيلية بعد أن يصير للاسرائيليين وحلفائهم الخليجيين موطأ قدمٍ صلب في المغرب، سيكون كلّ ذلك مجرّد بداية لتطويق وتطويع الجزائر وضمّها إلى قافلة المطبّعين والانتقام من تاريخها المشرِّف المُناهض للحركة الصهيونية والداعم للحركات التحرّرية، سيكون حينها مُقاومة التطبيع من قِبل الجزائر أمراً صعباً قد يُهدّد بسقوط الدولة بأكملها كما حدث مع العراق سابقا، وما خبرُ السودان منّا ببعيد.

 

خاتمة:

ألا يُمثّل كلُّ ما سبق تهديداً صارخاً للأمن القومي الجزائري؟ أليس من الواقعية أن تحاول الجزائر البحث عن سُبل متعدّدة تحمي بها وحدتها الترابية وسلامة أمنها القومي؟ خاصّةً إذا وضعنا في عين الاعتبار حدودها الجغرافية الشاسعة والمُشتعلة من كلّ الجهات بأزماتٍ جدّيةٍ تُصدّر نحوها كافّة أشكال التهديدات والمخاطر، تونس المضطربة سياسيا وليبيا كدولة فاشلة منقسمة من الشرق، مالي ذات النزاعات الإثنية غير المنتهية من الجنوب، إضافةً إلى التهديد المتزايد على حدود الغربية للجزائر.

أخيراً، نُؤكّد بأنّ مشكلة الجزائر لم تكن أبداً مع الشعب المغربي، ولكنّها ترتبط أساساً بذهنية نظام المخزن، بخيالاته الجيوبولتيكية الوهمية ونُخبه التّي تُمارس التلفيق عبر غسل الأدمغة بأوهام العظمة والشرعية التاريخية تارةً ولعب دور الضحيّة المظلوم أمام الرأي العام تارةً أخرى. في مقابل ذلك، فإنّ للجزائر كلّ الثراء والمقوّمات التّي تجعلها مُكتفية بحدودها السياسية، غير طامعة فيما ورائها كما تُروّج نُخب المخزن، ولن يكون للجزائر أيّ اعتراضٍ إذا ما قرّر الشعب الصحراوي بكلّ حرّية أن تكون أرضه جزءً من المغرب، فقوّة الجزائر واستقرارها من قوة الإقليم واستقراره جميعا.

 

ملاحظة: العلامات الزرقاء داخل النصّ هي إحالاتٌ لمراجعٍ ذات صلةٍ بتلك الجُمل، تُمكّن القارئ من الاستزادة والتوسّع في مضمونها.

 

جلال خشّيب: باحث جزائري مقيم بإسطنبول، يعمل حالياً كباحث مشارك أول بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا، له العديد من الكتب، الدراسات، الترجمات الأكاديمية والمقالات المنشورة باللغتيْن العربية والإنجليزية، من مؤلفاته كتاب: “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا: دراسة في البنى والتحدّيات” (2015)، كتاب: “أثر التحولات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجهّات الكبرى للسياسة الخارجية التركية: الصراع من أجل الإرادة الحرّة والمستقلّة في بيئة دولية حتمية” (2017). تهتّم أعمال الأستاذ خشّيب بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى الكبرى، السياسة الخارجية التركية، قضايا المغرب الكبير والسياسة الخارجية الجزائرية.

 

للتواصل مع الكاتب: Kh_dj@live.fr

 

  • جاء ذلك على إثر تحرّك المغرب بقوّاته العسكرية مؤخّراً ضدّ الشعب الصحراوي وقوّات البوليساريو الساعية لتحرير الصحراء الغربية والمنادية بحقّ تقرير المصير منذ طرد الإستعمار من المنطقة، إذ يستمر المغرب في اختراق بنود الاتفاق الأُممي المعقود قبل ثلاثين عامٍ تقريباً بينه وبين البوليساريو والقاضي بوقف إطلاق النار، ومع تزايد هذه الخروقات مؤخّرا، قام نشطاء صحراويين بغلق ثغرة الكركارات غير الشرعية الحدودية مع موريتانيا، الأمر الذّي جعل الجيش المغربي يتجاوز مرّة أخرى بنوذ الاتفاق ويخترق المنطقة العازلة لوقف إطلاق النار التّي تراقبها بعثة الأمم المتحدة (المينورسو)، محاولاً فرض منطق القوة بعيداً عن هذه البنود والمواثيق.

عماد تاج الدين

تعليق