مؤسسة آفاق للدراسات والتدريب

هنري كيسنجر[1]: لحل الأزمة الأوكرانية ، ابدأ من النهاية

بقلم: هنري كيسنجر، ترجمة: نوح بوكروح

بعد الاجتياح الروسي لشبه جزيرة القرم في فيفري 2014، كتب وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر حينها مقالا أشار فيه إلى أن سياسات التصعيد المنتهجة من طرف الغرب (الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها) تجاه روسيا بخصوص أوكرانيا والتي تعد مجالا للنفوذ الروسي، من شأنها أن تدخل العالم في حرب باردة جديدة، والتي يمكن أن تتطور وتنزلق إلى مواجهة في حالة استمرار التصعيد. وبالرغم من أن المقال يعود إلى عام 2014، إلا أن كاتبه قام  باستشراف لما سيحدث في المستقبل، بما في ذلك أحداث الحرب الجارية حاليا على الأرض الأوكرانية. كما طرح مجموعة من الحلول، والتي يمكن أن تشكل أرضية توافق بين أطراف الأزمة، وتُجَنِب الصدام المباشر. ونظرا لأهمية المقال، ارتأينا إعادة نشره بعد ترجمته لتعميم الفائدة.
(مقال منشور بتاريخ 05 مارس 2014،  في صحيفة الواشنطن بوست).[1]
المواجهة هي محور النقاش العام الدائر بخصوص أوكرانيا، والسؤال المطروح هو هل نعرف إلى أين نحن ذاهبون؟ في حياتي (حياة هنري كيسنجر) شهدْتُ أربع حروب بدأت بحماس وتأييد شعبي كبيرين، ولم نكن نعرف كيف تنتهي، في ثلاثة منها كان انسحابنا من جانب واحد، فاختبار السياسة ليس كيف تبدأ بل كيف تنتهي.
فالقضية الأوكرانية كثيرا ما تطرح على أنها مواجهة: بمعنى، هل أوكرانيا ستنضم إلى الشرق أو إلى الغرب (تبقى في فلك روسيا أو تنضم إلى الإتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي)؟. ولكن إذا كان قد قُدّر لأوكرانيا أن تعيش وتزدهر، فلا بد أن تكون جسرا بين الشرق والغرب، لا بؤرة استيطانٍ لأي من الجانبين ضد الآخر.
فعلى روسيا القبول بأن محاولة إجبار أوكرانيا على البقاء في وضع التابع (منطقة نفوذ روسية)، يعني نقل حدود روسيا مرة أخرى. وهو ما من شأنه الحكم بتكرار تاريخي لدورات تبادل الضغوط بين روسيا من جهة، وأوروبا والولايات المتحدة من جهة ثانية.
والغرب عليه أن يفهم أن أوكرانيا ليست مجرد دولة أجنبية بالنسبة لروسيا، فتاريخهما متشابك (إشارة إلى التاريخ الروسي الأوكراني المتداخل) بدأ فيما كان يسمى بـ كييف روس (Kievan-Rus ). ومن هناك انتشرت الديانة الروسية (الأرثوذكسية). ولقرون من الزمن كانت أوكرانيا جزءا من روسيا، كما أن بعض أهم معارك روسيا من أجل الحرية تم خوضها على الأراضي الأوكرانية، بداية من معركة بولتافا[2] (Battle of Poltava) عام 1709. وأسطول البحر الأسود الروسي (يعد وسيلة روسيا لاستعراض قوتها في البحر الأبيض المتوسط والمياه الدافئة التي كانت دائما حلم القياصرة) يتخذ من ميناء سيفاستوبول (Sevastopol) قاعدة له بشبه جزيرة القرم، بموجب عقد إيجار طويل الأجل. إن هناك إصرار على أن أوكرانيا كانت جزءًا لا يتجزأ من التاريخ الروسي ومن روسيا، حتى من قِبل المنشقين الروس المشهورين مثل ألكسندر سولجينتسين[3] وجوزيف برودسكي[4].
فالاتحاد الأوروبي عليه الإدراك أن تمدده البيروقراطي وخضوعه للعنصر الاستراتيجي لسياسته المحلية (تحقيق الاستقرار داخل دول الإتحاد) في التفاوض بشأن علاقة أوكرانيا بأوروبا، هو ما ساهم في تحويل المفاوضات إلى أزمة. فالسياسة الخارجية هي فن تحديد الأولويات.
فالأوكرانيون هم العنصر الحاسم لكونهم يعيشون في بلد له تاريخ معقد ولغات متعددة. فالجزء الغربي تم دمجه في الاتحاد السوفيتي في عام 1939  عند اقتسام ستالين وهتلر للغنائم. كما أن شبه جزيرة القرم، والتي يمثل الروس 60% من سكانها، لم تصبح جزءا من أوكرانيا إلا في عام 1954، أي عندما قام نيكيتا خروتشوف[5] بمنحها لأوكرانيا كجزء من الاحتفال بمرور 300 سنة على اتفاقية روسيا مع القوزاق[6] (Cossacks).
فالجزء الغربي من أوكرانيا كاثوليكي إلى حد كبير ويتكلم اللغة الأوكرانية، بينما الشرق وإلى حد كبير هو أرثوذكسي روسي، ويتحدث اللغة الروسية في الغالب. وأي محاولة للسيطرة من قبل أحد جناحيْ أوكرانيا على الآخر (بغض النظر عن شكلها) ستؤدي إلى حرب أهلية أو تفكك في النهاية. كما أن التعامل مع أوكرانيا كجزء من المواجهة بين الشرق والغرب من شأنه – ولعقود من الزمن – إفساد محاولات جلب روسيا والغرب إلى نظام دولي تعاوني (وبالخصوص بين روسيا وأوروبا).
فأوكرانيا، ومنذ القرن الرابع عشر كانت تحت نوع من الحكم الأجنبي. لكنها حاليا (يقصد عام 2014) لم يمضي على استقلالها سوى 23 سنة (أي الاستقلال عن روسيا الذي كان في سنة 1991). وليس من الغريب أن قادتها لم يتعلموا فن التسوية ولو من منظور تاريخي. فسياسات أوكرانيا ما بعد الاستقلال تبين بوضوح أن الجهود المبذولة من طرف السياسيين الأوكرانيين لفرض إرادتهم على أجزاء متمردة من البلاد هي سبب اندلاع الأزمة. أولاً من قِبل أحد جناحيْ المعارضة، ثم من قبل الجناح الآخر. وهو جوهر الصراع بين فيكتور يانوكوفيتش ومنافسته  يوليا تيموشينكو (المرشحان لانتخابات الرئاسة لسنة 2014)، لكونهما يمثلان جناحيْ أوكرانيا، ولم يبديا أي استعداد لتقاسم السلطة. فمن الحكمة إيجاد طريقة يتعاون من خلالها شطرا البلاد مع بعضهما البعض، وتحقيق المصالحة بينهما وليس لسيطرة جناح على آخر. فهذا هو المسعى الذي يجب على الإدارة الأمريكية إتباعه تجاه أوكرانيا.
فروسيا والغرب، وأقل من جميع الفصائل المختلفة في أوكرانيا، كلاهما لم يتصرف من حيث المبدأ. فكل واحد منهما جعل الوضع أسوأ. فروسيا ليس بمقدورها فرض حل عسكري دون عزل نفسها، كما قد تكون فيه العديد من حدودها غير مستقرة بالفعل. أما بالنسبة للغرب فشيطنة فلاديمير بوتين ليست سياسة إنما حجة لكي يتنصل من التزاماته.
فبوتين ومهما كانت مظالمه، عليه الإدراك بأن سياسة فرض الخيارات العسكرية ستفرز حربا باردة أخرى. كما أن على الولايات المتحدة تجنب معاملة روسيا على أنها شاذة (منحرفة) عن قواعد السلوك المدروسة التي تم وضعتها.  فبوتين يُعد استراتيجيا جادا (فيما يتعلق بالكتابات التاريخية الروسية). كما أن فهم القيم ومنظومة علم النفس الأمريكيتين ليسا مناسبين له، تماما كما لم يكن فهم التاريخ وعلم النفس الروسيين نقطة قوة لصانع السياسة الأمريكي.
فعلى قادة جميع الأطراف أن يعودوا إلى فحص النتائج، وليس التنافس في المواقف. فمفهومي (الكلام لـ “كيسنجر”) لنتيجة متوافقة مع القيم والمصالح الأمنية لجميع الأطراف، يتلخص فيما يأتي:
1. من حق أوكرانيا أن تكون حرة في اختيار شراكاتها الاقتصادية والسياسية، بما في ذلك مع أوروبا؛
2. عدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو (وهو الموقف الذي اتخذه كيسنجر عام 2008 وطالب به عندما قام الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بتوجيه دعوة لأوكرانيا من أجل الانضمام إلى الناتو)؛
3. أن تكون أوكرانيا حرة في إنشاء أي حكومة تتوافق مع إرادة شعبها المعلنة. وهو ما سيدفع القادة الأوكرانيين الحكماء إلى اختيار سياسة المصالحة بين مختلف أجزاء بلدهم داخليا. أما دوليا فعليهم إتباع وضع مماثل للموقف الفنلندي (موقف تعاوني فقط من خلال العضوية في الاتحاد الأوروبي). فلا تترك للأمة أدنى شك في استقلالها الشرس وتتعاون مع الغرب في معظم المجالات. وفي الوقت ذاته، تتجنب وبحذر، العداء المؤسسي تجاه روسيا؛
4. ضم روسيا لشبه جزيرة القرم يتعارض مع القواعد الحالية للنظام العالمي. ولكن ينبغي أن يكون ممكنا إقامة علاقة أقل تشدد بين شبه جزيرة القرم وأوكرانيا. ومن أجل هذا ستعترف روسيا بسيادة أوكرانيا على شبه جزيرة القرم. لكن يتعين عليها (أوكرانيا) تعزيز الحكم الذاتي لشبه الجزيرة في انتخابات تجري بحضور مراقبين دوليين، وإزالة أي غموض حول وضع أسطول البحر الأسود (الروسي) في سيفاستوبول.
هذه مبادئ وليست وصفات، فالعارفون بالمنطقة يعلمون بأن ليس كل هذه المبادئ ستُقابَل بالرضا لدى جميع الأطراف. فالاختبار ليس رضا مطلقا بل عدم رضا متوازن. فعدم التوصل إلى حل قائم على هذه العناصر أو على عناصر مماثلة، سوف يؤدي لتسارع الانجراف نحو المواجهة. والوقت من أجل ذلك قريب كفاية.
2022.04.20.

[1]  Henry Kissinger: To settle the Ukraine crisis, start at the end, in:

https://www.washingtonpost.com/opinions/henry-kissinger-to-settle-the-ukraine-crisis-start-at-the end/2014/03/05/46dad868-a496-11e3-8466-d34c451760b9_story.html

[2] معركة بولتافا ( 08 جويلية 1709 ): هي معركة دارت بين قوات روسيا القيصرية بقيادة القيصر بيتر الأول بطرس الأكبر- ( 9 جوان 1672-8 فيقري 1725) من جهة والإمبراطورية السويدية بقيادة المارشال كارل غوستاف رينسكيولد  Carl Gustaf Rehnskiöld ( 6 أوت 1651-29 جانفي 1722) من جهة أخرى. وهي واحدة من أهم معارك الحرب الشمالية العظمى، والتي هدفت من خلالها القوات السويدية الاستيلاء على قلعة بولتافا الروسية (حاليا في أوكرانيا ) وانتهت المعركة بهزيمة القوات السويدية.

[3] ألكسندر سولجنيتسين (Aleksandr Solzhenitsyn): أديب وروائي روسي سوفييتي معارض (11 ديسمبر 1918– 3 أوت 2008)، وكاتب مسرحي ومؤرخ. لفتت كتاباته النظر إلى “الغولاغ” – وهي معسكرات الاتحاد السوفيتي للعمل القسري – خاصة في روايتيْه “أرخبيل غولاغ” و”يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش“، واللتين تعدان من أشهر أعماله.

[4] جوزيف ألكسندروفيتش برودسكي (Joseph Brodsky): (24 ماي 1940 لينينغراد– 28 جانفي1996  في نيويورك). شاعر روسي حصل على جائزة نوبل للأدب لسنة  1987، وقد تم تعيينه ملك شعراء الولايات المتحدة  سنة 1991.

[5] نيكيتا سيرغيفيتش خروتشوف ( 15 أفريل 1894-11 سبتمبر1971) أوكراني المولد، زعيم شيوعي ورجل دولة سوفييتي. حكم الاتحاد السوفييتي من 1953 إلى 1964، وتميز حكمه بالمعاداة الشديدة لسياسات ستالين، وبإرساء الدعائم الأولى لما عُرف في فترة الحرب الباردة بـ “سياسة الانفراج الدولي” و”التعايش السلمي”.

[6] القوزاق : مجموعة أثنية  من السلاف الشرقيين الذين يقطنون  السهوب الجنوبية في شرق أوروبا وروسيا وكازاخستان وسيبيريا. وهناك أكثر من فرضية بشأن أصلهم ومن أين ينحدرون. وثمة فرضية تقول بأنهم فئة عسكرية من الناس ضمن روسيا. و هو ما لا يوافق عليه القوزاق أنفسهم، إذ يعتبرون أن أصولهم أعرق بكثير. ومن المعتقد أن موطنهم هو خط من القلاع والحصون يمتد من نهر الفولغا الوسطى باتجاه مدينتي ريازان وتولا ثم ينعطف نحو الجنوب ويصل إلى نهر الدنيبر في منطقة مدينتي بوتيفل وبيرياسلاف (المترجم).


[1] ولد هنري ألفريد كيسنجر Henry Alfred Kissinger ‏ في 27 ماي 1923 بألمانيا.  وهو سياسي أمريكي، ودبلوماسي، وخبير استشاري جيوسياسي، شغل منصب وزير خارجية الولايات المتحدة ومستشار الأمن القومي الأمريكي في ظل حكومة الرؤساء ريتشارد نيكسون (1969-1974)، وجيرالد فورد (1974-1977)، أصبح مستشار الأمن القومي في عام 1969 ووزير للخارجية  في عام 1973، مارس الواقعية السياسية،  لعب دورا بارزا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بين عامي 1969 و 1977. خلال هذه الفترة، كان رائدًا في سياسة الانفراج الدولي مع الاتحاد السوفييتي، ونسق افتتاح العلاقات الأمريكية مع جمهورية الصين الشعبية، وانخرط فيما أصبح يُعرف باسم “دبلوماسية الوسيط المتنقل” في الشرق الأوسط لإنهاء حرب أكتوبر 1973، والتفاوض على اتفاقيات باريس للسلام، وإنهاء التدخل الأمريكي في حرب فيتنام. ارتبط بسياسات مثيرة للجدل، مثل: تورط الولايات المتحدة عام 1973 في انقلاب تشيلي، وإعطاء «الضوء الأخضر» إلى المجلس العسكري في الأرجنتين لحربهم القذرة، ودعم الولايات المتحدة لباكستان خلال حرب بنغلاديش على الرغم من الإبادة الجماعية التي ارتكبتها باكستان بحق بنغلادش. بعد تركه الحكومة، أسس شركة أطلق عليها اسم ” شركاء كيسنجر”، وهي شركة استشارات جيوسياسية دولية. كتب كيسنجر أكثر من اثني عشر كتابًا في التاريخ الدبلوماسي والعلاقات الدولية.

kmch adm

تعليق