مؤسسة آفاق للدراسات والتدريب

تقرير ثمانية 8 عوامل تغذي النزعة العدوانية عند فلاديمير بوتين.

 محمد الأمين مقراوي

أستاذ جامعي- كييف أوكرانيا

مدير المركز الدولي للترجمة والبحوث والتدريب-كييف

2023.03.10

مرّت سنة كاملة على غزو روسيا لأوكرانيا؛ ويستذكر العالم تفاصيل الأخبار العاجلة التي تفجرت في وسائل الإعلام في تمام الساعة 5:00 من فجر يوم 24 من شهر فبراير من العام الماضي 2022؛ حيث بدأت روسيا عملية اجتياح واسعة لأوكرانيا، كان ذلك مفاجئا للبشرية جمعاء، ما عدا قلة من الخبراء الذين تنبؤوا بما سيفعله فلاديمير بوتين، ومنهم مدير الاستخبارات الأمريكية وليام بيرنز، الذي كان سفيرا لأمريكا لعهدتين في موسكو.

بعد صدمة القصف الروسي والاجتياح الجويّ والبريّ، بدأت وسائل الإعلام العالمية تطرح أسئلة متشابهة: ما الذي أصاب بوتين؟ ما الذي دفعه لشنّ أكبر حرب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية؟ ما الذي يدفعه إلى تهديد العالم بحرب عالمية ثالثة قابلة لاستخدام الأسلحة النووية؟ والغريب أن الوضع لم يتغيّر عند بوتين، بل زاد موقفه تصلّبا، وزادت حدّة خطابه نحو الغرب.

لم يكن هناك جواب جاهز ومختصر يمكن تقديمه إلى الجمهور الواقع تحت صدمةِ أكبر حدث تعيشه أوروبا، بعد 8 عقود من نهاية الحرب العالمية الثانية، فالجواب معقد، ولا يمكن تقديم مقاربة وحيدة تفسر ما نراه أمامنا من غضب متفجر في خطابات فلاديمير بوتين.

لكن يمكن إرجاع البواعث والدوافع المؤثرة في سلوكات بوتين المتهورة والعداونيّة إلى 8 أسباب:

1.الحنين إلى الماضي المجيد: في مقاله صيف 2021 والذي بلغت كلماته 5340 كلمة، أثار فلاديمير بوتين سرديات تاريخيّة هامّة، فكان ذلك إشارة هامّة إلى حنينه إلى الماضي الإمبراطوري القيصري لروسيا، وراح يستذكر أسماء القياصرة والشخصيات العظيمة والرمزيّة، ولم ينسه ذلك الحديث عن الكنيسة الأرثوذكسية، ودورها في حماية الهُوية القومية الروسية، ووجوب المحافظة عليها.

لكن اللاّفت في مقاله حديثه عن “روسيا القديمة” أو “روسيا الأمّ” وهو يشير إلى “كييف روس” أمّ المدائن السّلافية، وهو يتحسّر على وقوعها في أوكرانيا المستقلة عن الهيمنة والهوية الروسية، خاصة بعد انفصال 28000 كنيسة أرثوذكسية أوكرانية عن الكنيسة الروسية، وبمباركة العائلة الكنسية الأرثوذكسية في إسطنبول. لم يتقبل بوتين هذا الشرخ الذي يحدث لأول مرة منذ 1668، ومثّل له علامة مرعبة.

ولم يتقبل أن ينضم سكان أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، فمكان الأوكرانيين بالنسبة إليه يبقى ضمن التّاريخ والجغرافيا الروسيّة، لهذا تحدث في مقاله عن أنّ الرّوس والأوكران شعب واحد تربطهما روابط خالدة، ولا يوجد غير هذه الحقيقة. والعجيب أنه في خطابه الأخير يوم 21 فبراير/فيفري 2023 كرّر نفس السّردية.

2.تصحيح أخطاء الماضي:منذ أن تولى السّلطة في روسيا غضّ فلاديمير بوتين الطّرف عن اتهام الجمهور الرّوسي لميخائيل غورباتشوف بالخيانة، وسمح بنشر مواد إعلاميّة تتناول حياة بوريس يلتسين وميخائيل غورباتشوف بشيء من الاستهجان والسخريّة؛ لأنّهما -في رأيه- كانا من أسباب سقوط الاتحاد السوفييتي، خاصة أنّ الشّائع في روسيا أن الأطماع الشخصية في السلطة للرئيس بوريس يلتسن شكلت أحد أهم عوامل انهيار الدولة السوفياتيّة، ويكرّر في خطاباته أن تفكك الاتحاد السوفياتي أعظم خطأ جيوسياسيّ في القرن العشرين، وقد حدث ذلك عندما تم السّماح بتطبيق أحد مواد الدستورالسّوفياتي التي تنصّ على أنّ استقلال دولة سوفياتية واحدة يمنح بقية الجمهوريّات الحق في الاستقلال.

فكان غزو القرم في عام 2014 بداية جهوده في مسار تصحيح أخطاء الماضي، حيث يستنكر على نيكيتا خروتشوف منحه شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا، والتي لا يجد بوتين إلى الآن سببا مقنعا يفسر هذه الهدية، ويقول: “هناك شيء ما لا نعرفه عن هذا القرار”.

 في عام 1997؛  نصّت أحد المعاهدات الدوليّة بين روسيا وأوكرانيا على أن حدود أوكرانيا تتشكل من حدود جمهورية أوكرانيا السوفياتية السابقة، والتي تشمل القرم. كان بوتين -في ذلك الوقت- يشغل منصب مدير العلاقات العامّة في الرئاسة الروسية باقتراح من مهندس التحول الاقتصادي في روسيا أناتولي تشوبايس، وجادل بشدة هذا القرار الذي وُقع في عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسين، وبالتالي يمكن اعتبار غزوه لشبه جزيرة القرم في عام 2014 خطوته الأولى في تصحيح أخطاء الماضي.

3.الدائرة المتحكمة في ذاكرة بوتين: يحيط بوتين نفسه بدائرة تعرف جيّدا ما يريد سماعه ومشاهدته واستحضاره، لا نتحدث هنا عن الأوليغارش الذين يشكلون الدائرة الثانية في محيطه، لكنّنا نتحدث هنا عن الدائرة التي تكوّنت من ضباط قدامى في مختلف الأجهزة الأمنية، مثل نيكولاي باتروشيف، ووزير الدفاع شويغو، وبعض الشخصيات الثقافية المؤثرة مثل وزير الثقافة فلاديمير ميدينسكي، ورجال الأعمال مثل:إيغور سيتشين، أركاداي روتنبرغ، غينادي تيمشينكو، نيكولاي شامالوف، والصندوق الأسود كوفالتشوك.هذه الدائرة تملك حساسية شديدة من وجهات النّظر الأوسع، التي تحاول تجاوز آراءها.

لعبت هذه الدائرة دورا كبيرا في محو التجربة الإيجابية التي ميزت علاقة بوتين بحلف الناتو بعد توقيع إعلان روما عام 2002، حيث استمرّ التعاون بينهما لمدة عقد كامل، رغم أن حلف الناتو كان لايزال يتوسع، وضم في عام 2004 أربعة دول سوفيتية سابقا كانت تنتمي يوما ما إلى حلف وارسو.

4.استصغار نخبة أوكرانيا الحاكمة: بعد 2014 تمكن الشباب القوميون في أوكرانيا من أخذ أوكرانيا إلى  النهج “الديمقراطي”، لكنّها كانت ديمقراطية فوضوية في ظل الخناق الذي تعانيه الدولة بسبب تسلّط النّخب الأوليغارشية، ورغم ذلك كانت أوكرانيا نابضة بالحياة، وصار فهمها عصيّا على بوتين، فزعيمها قادم من عالم التمثيل والكوميديا، ونظامها الانتخابي متمرد لا يمكن التكهّن بما سيفزره، أما سلطاتها التنفيذية بما فيها الحكومة وجهاز إنفاذ القانون فهي تعمل في كل الاتجاهات لإصلاح البلد وأخذه بعيدا عن هيمنة روسيا والابتعاد عن الدوران في فلكها السياسي.

شكلت هذه النخبة إزعاجا ومصدر قلق وتوتر لبوتين الذي لم يتحمّل رؤية أوكرانيا تخطو خطواتها نحو أوروبا لتصبح نموذجا قد يغري الشّعب الروسي بتكرار التجربة في روسيا.

5.الفتوة العالمية:  في عام 2007  التقى بوتين بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في موسكو، كانت ميركل في عامها الثّاني من وصولها إلى المستشارية الألمانية، أحضر بوتين كلبه الأسود “كوني”؛ لأنّه كان يعلم بمعاناة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من فوبيا الكلاب بعد أن تعرضت إلى هجوم من الكلاب عام 1995. أظهرت الصور أن ميركل كانت خائفة بالفعل، ومن الواضح أنها كانت كذلك، هذا الموقف عزّز سمعة بوتين كرجل وقائد متنمّر، وعلّقت ميركل بعد ذلك بقولها: “أنا أفهم سبب قيامه بذلك، كان يريد أن يثبت أنّه رجل.. إنه خائف من ضعفه”. يبدو أن بوتين وقتها كان يمارس دور الفتوة المحليّة، وارتقى اليوم إلى لعب دور الفتوة العالمية، منتقلا من إخافة الغربيين بالكلاب، إلى إخافة العالم بالجيش الروسي ويهدد بالحرب النووية. إنه أفضل شيء يتقنه، وهو شيء يؤتي بنتائج جيدة بالنسبة إليه.

6.”انظروا إليّ أنا هنا أنا موجود”:  مع الصعود الصّيني إلى المسرح العالمي كقوة اقتصادية مؤثرة، ومع تعزيزها لقواتها المسلحة وقدراتها العسكرية، بدأت مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية تتعاظم، ما جعلها ترمي بثقلها في الجانب الشرقي للكرة الأرضية، وكان من اللافت وقتها تصريح جو بايدن أن الصّين من أولويات السياسة الخارجية، ولم يأت على ذكر روسيا، -التي صنّفها يوما باراك أوباما مع المنظمات الإرهابية ووباء إيبولا-. كان إهمال بايدن لروسيا أمرا مزعجا لبوتين الذي لا يحب أن يكون بعيدا عن الأنظار؛ لذلك بدأ بالتلويح بقوته العسكرية؛ وكأنه يقول للعالم “عليكم أن تنظروا إليّ فأنا هنا”.

إن بوتين لا يحب أن تمر الأيام والأسابيع دون أن يكون له حضور إعلامي عالمي، وهو يحتفي بالإحصائيات الألمانية التي تشير إلى أنه أكثر شخصية تناولها الإعلام الألماني في العقدين الأخيرين.

7.بوتين في العقد السابع وعقد القوة قد ينفرط: واحدة من الأسباب التي تفسر التهوّر الذي بات عليه بوتين هو بلوغه عقده السابع، ففي شهر أكتوبر/2022  بلغ من العمر 70 سنة، ويرى أنه مهدد بعدم تحقيق كل ما تمنى تحقيقه منذ 1999، وهو يعلم أنه قد وصل إلى ذروة الحكم المطلق، وأن الاستمرار في تحقيق التوازن والتحكم في المساومات بين أصحاب النّفوذ المحتاجين إلى سلطته، والذين يناورون بالفعل لخلافته أمر صعب ولن يدوم له. كما أنه غير متيقّن من ردة فعل الجمهور الذي تراجعت ثقته بشكل كبير في حكومة فلاديمير بوتين، وحتّى يحافظ على التوازنات فهو محتاج إلى الادعاء بوجود تهديدات خارجية جادة، وأن خيار الحرب لا مفرّ منه، وهذه طريقة شهيرة عند الأنظمة الشمولية للإبقاء على سيطرتها على الحكم أطول مدة.

8.إحباط عمره 15 سنة: عندما أُطلع بوتين على بنود معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا شعر بالغضب، وقال “لقد قيّدونا” لأنه كان عاجزا عن تحريك قواته. فما هي هذه المعاهدة التي أغضبته، وجعلته يتحدث بنبرة غاضبة ويشن هجوما كبيرا على الناتو في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، ليقوم بغزو جورجيا عام 2008.

تم التوقيع على معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا في 19 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1990 في باريس من قبل ممثلي الدول الأعضاء في حلف الناتو وكذلك أعضاء حلف وارسو، ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ في 9 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1992، ونصّت المعاهدة على الحد من القوات التقليدية لدول الحلفين العسكريين وكذلك الحد من نشر القوات على خط التماس بين الحلفين، بهدف منع وقوع هجوم مفاجئ وشن هجمات واسعة النطاق في أوروبا.

وجرى تطوير المعاهدة بسبب تغير الوضع السياسي العسكري في أوروبا لاحقا، وكذا بسبب زوال حلف وارسو بعد توقيع اتفاق بهذا الشأن في براغ في 1 يوليو/تموز عام 1991 وتفكك الاتحاد السوفيتي في أواخر العام نفسه، وكذلك توسع حلف شمال الأطلسي.

أعلنت روسيا التعليق التام لمعاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا ابتداء من يوم الأربعاء 11 مارس/آذار 2022 بعد أن علقت العمل بهذه المعاهدة في عام 2007.

ظلّ هذا الإحباط ملازما لبوتين وظل يصف الغربيين بقوله: “إمبراطوريّة الكذب”، ويمكن تفسير هذه العبارة بما قاله عام 2014، بعد ضمّه لشبع جزيرة القرم، عن المسؤولين الغربيين: “لقد كانوا دائما يضعوننا أمام منجزات واقعية منتهيّة ثم يحاولون تبريرها”.

هذا ما يغذي عدوانية بوتين وسياساته:

 مما سبق، يمكن القول أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتغذى على السّرديات التاريخية والدّوران في حلقة محددة من الذاكرة، يغذّيها شعوره الشخصي بالقهر، وسلوك التنمّر، واحتقار خصومه، ومحاولته البقاء على قمّة السّلطة في روسيا، وشعوره بتهديد وشيك قد يزيحه عن كرسي الحكم.

لقد فشل جميع الرؤساء الذين زاروا موسكو في ثنيه عن الدخول في مغامرات متهورة لا تعرف عواقبها على روسيا وعلى العالم، ولعل مكالمات ولقاءات وتوسّلات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وبوريس جونسون البريطاني وشولتز الألماني قبل بداية الحرب عام 2022 شاهدة على رفض بوتين أي تراجع عن قراراته الخطيرة.

كان الجميع في انتظار ما يمكن أن تقوم به الصين التي قد يستطيع رئيسها استعمال حاجة روسيا إلى بلاده في تحقيق نوع من التنازلات، وبقي هذا بعيدا في ظل إدارة شي جين بينغ، رغم المبادرات التي قدمتها الصين خلال الشهر الماضي.

kmch adm

تعليق