مؤسسة آفاق للدراسات والتدريب

فكرة الأمّة الحضارية، ما تفسيرها الموضوعي راهنا؟

بقلم: الدكتور محمد عبد النور

الدكتور محمد عبد النور

لا يوجد برهان يمكن أن يُعلل موضوعيا لعودة مفهوم “الأمة الحضارية” في الوقت الحالي سوى القول باتجاه الوضع العالمي إلى انقلاب فعلي في طبيعة العلاقات الدولية، بمعنى تفكك المفاهيم الأساسية الكبرى لنظام وستفاليا، وما يسمى بالدولة الحديثة وخاصة العقود والمعاهدات السارية التي تحكم الدول فيما بينها، وذلك يفترض أساسا أيلولة المنظومة العالمية الراهنة إلى استنفاذ المبررات الموضوعية لاستمرارها، وأعني بها العوامل المادية والرمزية التي تؤدي إلى التضعضع ومن ثم السقوط.

لقد أصبح مفهوم الأمة في المنظومة العالمية الراهنة مرتبطا بالوطن الجغرافي الصناعي الذي تأسس على فكرة الدولة الوطنية (أو القومية) الحديثة، بما جعل من الكيانات الحضارية الكبرى تتجزأ إلى كيانات وطنية جزئية منفصلة واعتبارها أمرا واقعا لا جدال فيه، فمن حيث المبدأ فإن الدول الغربية المتقدّمة أصبحت في مرحلة ما عنوانا لاندماج الحضارات فيما بينها بما احتضنته من أعراق وديانات مختلفة بحيث جعلها ملتقى للشعوب جميعا بفضل التطور التكنولوجي للمواصلات وكذا بفضل القوانين التي تتيح الهجرة والإقامة والتجنس، ولكونها صارت مناطق حضارية ذات جاذبية قوية يتهافت عليها الجنس البشري من كل مناطق العالم، فما هو الأساس الذي عليه بني هذا الاندماج؟

 

كل الحضارات المزدهرة أصبحت في مرحلة ما حضارات متعددة الأجناس

معلوم أن حالة الانفتاح على شعوب العالم هي مرحلة ضرورية تصل إليها كل الحضارات المتقدّمة في أحد مراحلها عبر التاريخ، وهي في الواقع مرحلة تترافق مع فقدان إنسان الحضارة لدوافع البناء بحيث تتلوها مرحلة الاستهلاك، ذلك أن الأجيال الحاضرة ستستكين لفكرة التمتع بميراث الأجيال السابقة وتستعين في القيام بالأعمال الحضارية ذات الجهد بالأجانب، وبه فإن الكلام عن تعددية الحضارة المعاصرة على أنها منفتحة أو ديمقراطية ليس إلا وهما يسوقه من لا يدرك قوانين تطور الحضارات البشرية.

كل الحضارات المزدهرة أصبحت في مرحلة ما حضارات متعددة الأجناس، لكن البداية تكون حتما منطلقة من عصبية حامية وذات شوكة، والأهم أن مرحلة البدايات الحضارية مرحلة روح بحيث يكون العطاء والتضحية بلا حساب للمقابل دنيوي، على أن مرحلة الروح لا تعدم التعدد القومي لكنه ينصهر في شكل عصبية متخيّلة بفضل الوحدة الاجتماعية التي تؤسسها الروح، بينما مرحلة الانفتاح والتعدد هي مرحلة العقل وتكافؤ المنافع، بحيث تقوم الوحدة على العطاء والأخذ المتكافئين وسرعان ما تنقلب الحالة النفسية في مرحلة ثالثة عند عموم المجتمع المتحضر الذي يتحول إلى طلب الحقوق دون الالتفات إلى الواجب.

وما ساعد على دعم أوهام خصوصية الحضارة المعاصرة بالتعدد هو التطور التقني الذي ساهم في اختلاط الشعوب وتفاعلها الثقافي، دون نكران قدرة الثقافة الغربية الكبيرة على المراجعة والتنازل القدر المستطاع لتحمل الأجانب والترحيب بهم كوسيلة لاستطالة التقدم والهيمنة، وذلك ما جعل من المنظومة الرأسمالية الراهنة أطول الحضارات صمودا وبقاءً في التاريخ؛ فعوامل التقدّم التقني وطول المدة الزمنية عزز من وهم التغير النهائي للطبيعة البشرية وأنه لا رجعة عنها، كما عزّز وهم أن من أراد السبق الحضاري عليه الاندراج التام في النموذج الحضاري المعاصر، خاصة ما تعلّق بمفهوم التصاهر والتدامج الحضاري، دون تعميم المكتسبات المتعلقة بتطور التنظيم الاجتماعي والسياسي.

قدرة الثقافة الغربية الكبيرة على المراجعة والتنازل القدر المستطاع لتحمل الأجانب والترحيب بهم كوسيلة لاستطالة التقدم والهيمنة، وذلك ما جعل من المنظومة الرأسمالية الراهنة أطول الحضارات صمودا وبقاءً في التاريخ

وهنا نصل إلى نقطة التماس بين النمطين الحضاري العام والدولتي الراهن، فقد تقدّمت الإشارة إلى ما حصل من اختزال لمفهوم الأمة في الوطن الجغرافي الصناعي، أو ما درجت عليه المنظومة العالمية الدولية باسم “الدولة الحديثة”، فهو بلا شك عرف تطورات جليلة فيما يخص التنظيم البيروقراطي للمجتمع بما لا يجب النكوص عنه، لكن المعضلة هو في تحنيط التطور التنظيمي الذي شمل أغلب الجنس البشري إلى حالة سياسية ثابتة، أعني عدم القدرة على فصل التقدّم التنظيمي والتقني عن طبيعة العلاقات الدولية الحاضنة لتلك التطورات والتي تقوم على موازين القوى العسكرية والاقتصادية خاصة، أي عدم التمييز بين التقدّم البشري الخطي للتقنيات والتنظيمات وبين التطور الحضاري السياسي الدائري، هو الذي سيُبقي الكثير من الناس غافلين عن تمييز الظرفي من غير الظرفي، وتلك هي العلة التي جعلت الكثير من الباحثين لا يستوعبون مقولة “صراع الحضارات” بل وقلقوا وانزعجوا منها لأنهم لم يجدوا لها تفسيرا في أذهانهم، وبقيت عندهم لغزا إلى حد الآن.

إن نظرية “صراع الحضارات” تخلّصت تماما، هي وصاحبها، من القصور عن إدراك الفارق بين التقدم البشري الخطي الذي يحققه البشر وبين التطور الحضاري الذي يحصل داخل الحضارة الغالبة، وإنّ مما يكرّس الوهم -الذي أزيد في تحديده أنه وهم تحنيط التطور الحضاري وعدم فك ارتباطه بالتقدّم التنظيمي والتقني- هو الترابط الوثيق بين صعود الحضارات والمعطى الديني، فالدين هو عامل حاسم في المسألة الحضارية من بعدين:

1- الدين عامل مفعّل لمركبات الحضارة الثلاث: الإنسان والطاقة والوقت، فالفكرة الدينية تشحن إنسانها بالدوافع اللازمة لتحصيل القدرة والإرادة في سبيل البناء والتشييد، كما أنها تصهر إنسانها أخلاقيا عندما تجعل من الغاية المشتركة قاضية على كل النوازع الضيقة فردية كانت أو جماعية، كما أن ضمورها يعني تغير في اتجاه الحضارة.

2- الدين حاضنة فكرية، فهي بمجرد أن تشع في النفس فإنها تذيب فيها كل العوائق الظرفية: التاريخية والجغرافية وتؤسس لوضع جيوسياسي جديد قاض على الوضع السابق، وهذا تحديدا ما سيحيل المنظومة العالمية الراهنة إلى وضع تاريخي ويزيل وهم الأبدية عنه، وعلى مركزيته يبقى الدين دائما عاملا جزئيا في المسألة الحضارية.

وهنا نصل إلى بيت القصيد من هذا المقال وهو أنه لا يمكن فهم ما يحصل اليوم من أحداث تبدو مناقضة لما يُعتقد أنه طبيعة ثابتة في العالم المعاصر، خاصة وأن المناقَضَة صادرة عن ذات القوى الكبرى التي أسسته في الماضي وتشرف عليه اليوم، إذا لم يتأسس الإطار النظري السليم الذي ييسر استيعاب الأحداث استيعابا صحيحا، ومن ثم يمكن من التصرف حياله التصرف الصحيح.

فالدارج في أذهان المتابعين والباحثين هو أن المكاسب الحضارية الظرفية خاصة منها: الديمقراطية والعلمانية وكل ما تفرّع عنهما هو مما لا رجعة عنه، وأن ما يصدر من تصرفات مناقضة لها من طرف الغربيين، -أعني السلوك بشكل مناقض لمبادئ الديمقراطية خاصة انتهكاك حقوق غير الغربيين في الغرب والتدخل في حرياتهم، والسلوك الخاطئ للعلمانية وأسسها خاصة عودة البعد الديني للظهور في المسائل المتعلقة بالعلاقة داخليا ومع الأمم غير الغربية-، إنما هو في تفسيرهم لا يدل على سقوط المنظومة الغربية الرأسمالية: الديمقراطية العلمانية بقدر ما هو خطأ في سلوك أصحابها، وأن على الأمم الأخرى إذا أرادت التقدم أن تلتحق بالنموذج الرأسمالي الغربي ومتفرعاته، وهذا عين الخطأ في تفسير ما يحدث.

إن الحاصل اليوم فعليا هو حالة نفاذ للنموذج الرأسمالي الغربي، وأن الاختراقات التي تحصل له من الداخل الغربي والتي أصبحت أكثر علانية ووضوحا هو إعلان لإفلاسه، ومن ثم فإن التصور السليم يتمثل في ضرورة العودة إلى فهم واستيعاب القوانين الحضارية الثابتة التي لا تتبدل بما هو تمييز للثابت من المتغير، فالثابت هو التنظيم الاجتماعي والتقنيات المادية، والمتغير في الحضارات، وهو النظام السياسي الاقتصادي والتأسيس الفلسفي والمعرفي له.

كما أن التصرف السليم يقتضي مكاشفة وقراءة مختلفة للواقع التاريخي والديني الجديدين، ذلك أن حقيقة الانتماء الحضاري للأمة راهنا يجب أن تنفصل عن وهم المعطى الاجتماعي والتاريخي، بحيث يصبح الفاصل بين المنتمي وغير المنتم للأمة طبيعة التصرف والسلوك، والمرحلة الراهنة هي مرحلة تمايز وانتقالات فردية وجماعية جديدة بين الكيانات الحضارية ستسفر في الأخير عن خريطة الصراع الحضاري الذي هو متحقق نظريا وعمليا ولم يبق إلا أن يُستوعَب في الأذهان، واستكمال وضوحه في الأذهان سيأخذ الصراع إلى نهاياته الحتمية كضرورة تاريخية لظهور المنظومة البديلة عن المنظومة العالمية الراهنة.

عماد تاج الدين

تعليق