مؤسسة آفاق للدراسات والتدريب

السياسة والتقدّم الاجتماعي، أية علاقة؟

متى يمكن أن نقول أو نعتبر أننا حقّقنا تقدّما؟ أو ما هو المعيار الصحيح والمتفق عليه والملموس الذي إذا تحقق أدركنا وعرفنا وتيقنّا بأننا في الاتجاه الصحيح وأننا يجب أن نستمر عليه لحصد مزيد من المكاسب في سبيل خير الوطن والمواطنين؟ أو بعبارة أخرى ما هي نقطة الانطلاق إلى مستقبل يكون أفضل مما كان في الماضي والحاضر؟

لا ريب أن لكل الأمم الناهضة نقطة انطلاق رئيسة بها تدرك أنها فعلا في الطريق الصحيح الذي لا يجب التراجع عنه، ذلك أن تأكّد أمة من الأمم أنها في الطريق الصحيح، وشيوع ذلك الشعور بين أفرادها، هو الذي سيدفعهم لتقديم النفيس في سبيل ألا يحدث التراجع والانقلاب على المكاسب، وأن أكثر ما يعوق الأمم في سبيل تقدّمها هو اختلافها في تصور نقطة الانطلاق، إذ ومن رغم اتفاق الغالبية من الناس على حقيقة وجود قوى محددة ترفض التغيير الذي يضمن التقدّم، إلا أن عِلّة تخلفها الحقيقية تكمن عدم اتفاقها على نقطة البداية ما هي؟ ومن أين؟ وكيف يمكن أن تحدث؟

إن مفارقة رئيسة هنا تكمن في تصور أن يحدث تقدّم دون أن نشعر به، وإذا لم نشعر به فإننا على الأغلب سنخسر هذا التقدّم ونتراجع إلى الوراء كأن لم يحدث أي تقدّم! إن تصورا كهذا لا يُلقي بالا لفرضية مقابلة مفادها أن التقدّم يحصل ضرورة على أعين الناس، أي أن التقدّم إذا كان تقدّما حقيقيا فإنه حتما سيلامس حواس الناس المباشرة، ومن ثم فالتقدّم الحقيقي لا يمر جانبا على المدارك لكنه قبل أن يلامس شغاف القلوب إنما يطرق الحواس التي لا يخطئها إدراك المواطن البسيط، وفائدة التعرف إلى وجود التقدّم هو -كما قدّمتُ- أن يميل المواطن إلى حمايته ومراكمته بإصرار.

يميّز علم السياسة بين منح الحاكم الحرية للشعب وبين التزامه بالحكم الرشيد بأن العلاقة بينهما ليست سببية، فكما توجد ديمقراطية في بلدان غير متقدّمة كالهند، توجد أيضا بلدان مزدهرة اجتماعيا وليست ديمقراطية فيها كالصين، ومع التسليم بأن الحالة المثالية هي اجتماع الديمقراطية مع التقدّم كما هو حاصل في الدول الغربية إلا أن الإعتقاد بوجود علاقة سببية بين الحريات الديمقراطية والتقدّم فهو قول فيه نظر، فالحريات الديمقراطية التي ينتج عليها نظام سياسي تداولي ودستور يعبر عن روح المجتمع هو في الواقع نتاج للتقدّم الاجتماعي الذي يحدثه الحكم الرشيد، وهي فكرة موجّهة يمكن اعتبارها مهمة جدا في التعرّف إلى سبل وكيفيات التقدّم، أعني أن وضع الثور أمام المحراث وتجاوز الوضع المقلوب بوضع الثور أمام المحراث يقتضي الانطلاق من العمل على الرّفع من أسباب الرشادة في الحكم والتقليل من الفساد الإداري والمالي.

1- الحريات السياسية

فالحرية هي فتح المجال السياسي أمام الجميع سواء بالرأي أو بالموقف أو بالتنافس على السلطة ذاتها، وهي أيضا التخلّي عن القمع والاستبداد بأصحاب الرأي و الموقف المختلف، من منطلق أن الكل يتنافس على خير البلد، بمنطق فليتنافس المتنافسون، وبشرط أن يكون الاجتهاد في الرأي واتخاذ الموقف في خدمة المصلحة الوطنية نزيها لا يتقيد بخطط وبرامج أجنبية تضر بمصالح البلد، فالحرية في النهاية إنما هي إطلاق الحاكم العنان للمواطنين للإدلاء بآرائهم وتأطيره لمواقفهم المختلفة بالقانون والمحاسبة.

ومن ثم فمسؤولية الحاكم هنا تتلخص فقط في قرار واحد يلقي به إلى جمهور المواطنين فيتلقفوه بالترحيب ثم ليمضي كل منهم بعد ذلك ليعمل على شاكلته، وهذا غالبا ما يكون تمثيليا أي أن بعض النخبة من الناس هي التي تتولى ذلك في الكتل السياسية التي لا تشمل جميع مواطني البلد، ذلك أن طبيعة الأشياء تدفع المواطن ليشتغل بشأنه الخاص الذي يستغرق غالب وقته، وأن العناية بالسياسة وشأنها يعد أمرا رمزيا جدّا، لا يقوم على تأثير مباشر في يومياته، وربما كان الانغماس في السياسة مما يضر مصالحه الخاصة، لذلك فهو ينزع إلى الابتعاد عن المشاركة السياسية ويقتصر في الأغلب الأعم على المتابعة فقط بغض النظر عن رضاه من عدمه.

فضلا عن ذلك فغالبا ما يغدو دخول عالم السياسة في حد ذاته شغلا أو وظيفة استرزاق لأصحابه، وهنا تطرح مسألة طبيعة الممارسة السياسية إذا ما تحولت إلى وسيلة استرزاق وخطر تعرّضها للفساد، وفساد الممارسة السياسة يحولها إلى مرتع للتجار ويبعد عنها مفاهيم السياسة الحقة بما هي كدح في سبيل المشاركة في صناعة الرأي العام والتأثير في صناعة القرار.

إن تحول الرأي والموقف السياسيين إلى أداة متاجرة هو أسوأ ما يمكن أن يحدث في بلد ما، وغالبا ما يسهم الحاكم في صناعة وعي سياسي يرتكز على مبدأ المتاجرة بالمصالح والمزايا التي يجلبها الاشتغال في المجال السياسي، فلا تغدو السياسة سياسة لكنها تستحيل إلى تجارة وتنافس بين عصب تتخذ من الواجهة السياسية كرنفالا لبيع الأوهام كل مرّة، وبالتالي فإن تتجير السياسة سينعكس سلبا على الحياة العامة للمواطنين الذين سيعزفون في أغلبهم عن السياسة ولن يمارسوها إلا على أساس الاستجابة للمصالح، ويغدو الاهتمام بها لمجرد شغف لا يختلف عن شغف الاهتمام بالرياضة مثلا، مجرد متابعة للتنافس ومعرفة الغالب والمنتصر، وتلك هي أسوأ أشكال الممارسة السياسية وأكثر تعفّنا وأبعدها عن حقيقة السياسة.

2-الحكم الراشد

أما الحكم الراشد فهو إشراف الحاكم المباشر على تسيير الشأن العام للناس الذي يحصل بيروقراطيا، وهو تصرف المؤسسات العامة في الموارد الوطنية وفق لمبدأ العدالة، فالحكم الراشد يقع بين يدي صانع القرار الذي يقوم بمتابعة مستمرة للشؤون العامة، بمعنى أنه وعلى خلاف الحريات السياسية التي تقوم على مجرد قرار ومجموعة تنظيمات فإن الحكامة الراشدة ليست هي المتابعة المستمرة فقط بل هي التدخل المباشر في متابعة تحقيق المؤسسات والمشاريع أهدافها على الوجه الاتم، ومن ثم الانتهاء إلى تحقيق موازنة بين الاقتصاد ومستويات الرفاه الاجتماعي للمواطنين، وكذا التصرف السليم في الموارد والطاقات، بداية من القيام على كفاءات المواطنين وتشجيعها والوقوف على تطويرها واستثمارها للمصلحة العامة للوطن، وذلك وفقا لمبدأ العدالة بين الجميع سواء في توزيع الثروة واستثمار الكفاءات، وذلك ما يكفله القانون.

فالقانون والاستجابة له هو الركيزة، وأن ما دون جودة التسيير واحترام القانون سيحصل تعطّل عام للطاقات وإهدار للموارد فتفسد النفس الاجتماعية ويقضى على كل إمكانات التقدّم، وبه فإن المؤشر على السير نحو التقدّم يأتي أكثر وضوحا من جهة الإدارة الجيدة، أو الحكم الراشد، لكونه يلامس المدارك الحسية للمواطن.

ولعل من أهم أسباب تيسير الحكامة الراشدة هو البحث ومحاولة الكشف عن مجالات استثمار جديدة للموارد والطاقات البديلة عن الموارد والطاقات القديمة التي تهيمن عليها القوى المستبدة القديمة، ومن أفضل الأمثلة على ذلك هو أن النهضة الأوروبية استبدلت مركزية العقار الذي شكل مصدر القوة الصلب للإقطاعيين بمركزية التجارة التي شكلت الحليف السياسي للسلطة الحاكمة، كما يعني ذلك أن نخب اليوم المسيطرة على الاقتصاد التقليدي لا يجب أن تتنابز مع القوى التقليدية على مواردها إنما يجب أن تبحث لها عن موارد مستقبلية بعيدة أعين وتحكم وقدرة الأقوياء الاقتصاديين حاليا.

غالبا ما يكون الحائل دون الحكامة الراشدة والحريات السياسية هو عامل التبعية السياسية التي تكون هي العائق الأول، فالمتبوع يحاول جاهدا التقليل من منسوب الحاكمة الراشدة وتضييق حريات المواطنين وحتى محاولة القضاء عليها نهائيا، لأن الحكامة الراشدة بما هي اشتغال برفاه المواطن هي المقاوم الموضوعي للتبعية، بينما السياسة بما هي اشتغال بالهوية تعتبر المقاوم الذاتي للتبعية.

ولما كانت الفاعلية هي تحقيق أفضل النتائج بأقل الوسائل، فإنه بالقليل من الحريات السياسية يمكن الإعداد للتحرر الذاتي من الاستتباع الروحي، كما أنه بالقليل من الموارد والطاقات يمكن الإعداد للتحرر الموضوعي من الاستتباع المادي، على أن الغاية لا تكون مقاومة المتبوع من القوى الخارجية إنما الغاية تكون أساسا لـ: 1- استعادة الدولة لهويتها المفقودة جرّاء الإندراج في الحداثة السياسية، 2- إقامة الحكامة الراشدة المفقودة جرّاء انعدام الكفاءة البيروقراطية، بحيث يمكن اعتبار الغايتين المذكورتين الرائز المحوري في تحقيق التقدّم، وأعني بذلك تحديدا إعداد شروط الاستقلال السياسي وإعداد شروط الحكامة الراشدة قبل انتظار حصولهما على أرض الواقع على الوجه الأتم.

د. محمد عبد النور

عماد تاج الدين

تعليق