مؤسسة آفاق للدراسات والتدريب

الأشخاص سريعو الدموع في القانون الأميركي

بقلم: هبة بعيرات

لطالما كان الإنسان الفرد المادة الأساسية والأشدّ حيوية في النظام المحيط به، وإن بدا أن الطبيعة أو الممتلكات أو الجماعة ككل تحظى بأولوية الشرائع الإنسانية والسماوية على السواء، فما ذاك سوى تمهيد وسبيل إلى سعادة الفرد وسموه وصلاحه، حتى إنّ أنظمة قانونية كثيرة تعترف بالحقيقة ما خدمت استقرار الإنسان وازدهاره، فإن حادت عن ذلك أُهمِلَتْ، وفي قواعد التقادم ومنع الادعاء بخلاف الظاهر المقنِع (estoppel) خير مثال.

يرتكز قانون الأضرار الأميركي (التعويضات المدنية) على أفعال المدّعى عليه التي تنطوي على تعمُّد أو إهمال أو تقع في نطاق حالات المسؤولية المطلقة التي لا تتطلّب وجود خطأ ما، وينتج عن هذه الأفعال أذى فعلي للمدّعي. وعلى الرغم من ديناميكية الأنظمة القانونية الأنجلوسكسونية، ومنها النظام القانوني الأميركي، لاعتمادها على السوابق القضائية، وإعطائها الاجتهاد القضائي دوراً فعالاً لتطبيق القواعد العامة، وفقاً لملابسات القضية وتفاصيلها، بدلاً من الارتكاز الجامد على نصوص وقواعد مقننة، إلا أنه لا بد من الاتّكاء على معايير عامة محدّدة، تضمن استقرار الأنظمة القانونية، وعدم انسياقها وراء أهواء القضاة وهيئات المحلفين ومشاربهم المتباينة. ومن هذه المعايير العامة في قانون الأضرار معيار “الشخص العادي” أو “الشخص ذي المنطق المتوسط”، وهو المعيار المعتمد في أغلب الأضرار، باستثناء القليل الذي يتطلّب معياراً أعلى أو مختلفاً. ويقوم معيار الشخص العادي على مواصفات شخصية وهمية، تمتلك صفات جسدية وعقلية وعاطفية متوسّطة، ويتم قياس أفعال وردود أفعال المدّعي والمدّعى عليه بالمقارنة مع أفعال وردود أفعال مفترضة من الشخص العادي الواقع تحت الظروف والمحدّدات نفسها. يبدو هذا المعيار متسقاً مع نظرة المشرّع للتصرّف الجمعي المقبول في حدّه الأدنى، وهكذا عادة ما يتم تهميش ردود الأفعال المغرقة في الحساسية لدى تحديد مسؤولية المدّعى عليه.

تعدّ القضايا التي تنطوي على إلحاق الضرر العاطفي من أمتع القضايا وأكثرها غموضاً وجاذبية في القانون الأميركي

في المقابل، فإن معياراً آخر مهماً يحكم قانون الأضرار، وخصوصاً في إطار الأفعال التي تنضوي على إهمال، وهو معيار “التوقّع” أو “إمكانية وقوع الحدث”. ويتّكئ هذا المعيار، بصورة أو بأخرى، على المعيار السابق. وبناء عليه، سيكون المدّعى عليه مسؤولاً قانونياً عن فعله، لو أمكن الشخص العادي توقع نتيجة الفعل والضرر الناجم عنه حال وقوعه تحت الظروف نفسها. ولا يعدّ هذا المعيار بسيطاً ومباشراً، بل يتشعّب ويتعمّق في النفس البشرية والمخيال البشري الذي يشكّل الوعي والنوايا، ولو في جزءٍ بسيط من الثانية.

وقد ذهبت المحاكم الأميركية إلى حد بعيد في تثبيت هذا المعيار، منتجة كمّاً غزيراً من القضايا الصادمة والمحيرة في آن. ففي عام 2011، أقرّت محكمة استئناف كوك كاونتي في ولاية إيلينوي مسؤولية تركة السيد جوهو عن الأضرار الواقعة على السيدة زوخرابوف. القضية الغريبة من نوعها تمحورت حول هيرويوكي جوهو البالغ 18 عاماً، والذي قطع، في صبيحة ماطرة، سكة الحديد في محطة إيدجبروك، واضعاً سمّاعات موسيقية على أذنيه، ليضربه قطار سريع بعد عدة ثوانٍ، محوّلاً جسده إلى أشلاء. طار القسم الأكبر من جسد جوهو مسافة مئة قدم ليصطدم بالسيدة جيانا زوخرابوف البالغة 58 عاماً، والتي كانت تنتظر قطار الثامنة والربع المتوجّه إلى عملها على الرصيف المقابل للمحطة. نجمت عن الاصطدام كسور في أنحاء مختلفة من جسد السيدة زوخرابوف. ولدى توجهها إلى القضاء للحصول على تعويض، نتيجة الضرر الذي لحق بها، أقرّت محكمة الاستئناف مسؤولية تركة الفتى جوهو عن إهماله، إذ اعتبرت المحكمة أنه كان في وسع المتوفى، كأي إنسان عادي، أن يتوقع إلحاق الضرر بالآخرين، في حال اصطدم بالقطار وطار جسده باتجاههم.

لا يعد الضرر المادي أو الجسدي الملموس معياراً أو مكوناً أساسياً في كل الأضرار التي تستتبع مسؤولية قانونية

وعلى عكس المعيارين السابقين، لا يعد الضرر المادي أو الجسدي الملموس معياراً أو مكوناً أساسياً في كل الأضرار التي تستتبع مسؤولية قانونية. ومن بين هذه الأفعال التي لا تتطلّب ضرراً جسدياً فعل “إلحاق الضرر العاطفي”، متعمّداً كان أو ناجماً عن إهمال، وهو بالمناسبة فعل مختلف عن التشهير أو نشر الشائعات، والتي تقع تحت تصنيفاتٍ مستقلةٍ ضمن قانون الأضرار.

تعد القضايا التي تنطوي على إلحاق الضرر العاطفي من أمتع القضايا وأكثرها غموضاً وجاذبية في القانون الأميركي؛ لانطوائها على عنصر العاطفة، وخوضها في تلافيف النفس البشرية، وبالتالي، عدم إمكان تأطيرها في محدّدات ثابتة، أو القياس المنصف لها أو عليها. وهكذا يحمل محامو الخصوم، كلٌّ بحسب موقعه، عبء إثبات مدى شناعة الضرر الواقع على عاطفة أحدهم، أو سخافة هذا الضرر، بما يتماشى أو يتعارض مع “قواعد اللياقة والكياسة الاجتماعية المقبولة في المجتمع المتحضّر”. من حق القارئ طبعاً أن يتوه وسط هذا الحشد الضبابي المائع من المفردات التي تملك ألف رأس، وألف معنى، كالتنين السومري. وعلى الرغم من أن الإهانات اليومية البسيطة التي قد يتعرّض لها الإنسان من احتكاكه مع الآخرين، تخرج من نطاق الأفعال الموجبة للمسؤولية، حيث يفترض القانون أن الفرد يتوقع وقاحة المجتمع الخارجي وقسوته، وحيث يبدو من حق الآخرين التعبير والاعتراض بشكلٍ قد يكون قاسياً أو جارحاً للفرد، وفق التعديل الدستوري الأول، إلا أن معرفة المدّعى عليه المسبقة بفرط حساسية المدعي، وتوجيه الإهانات إليه، على الرغم من هذا العلم المسبق، وبالتالي توقع (وتعمّد) النتيجة المؤلمة والجارحة عاطفياً، يأتي استثناءً على المعايير العامة المذكورة سابقاً، ويمهد، خلافاً لها، طريقاً إلى المسؤولية القانونية.

تُعد المعرفة المسبقة مناط النية في القانون الأميركي، بينما تعد النية الحسنة أساس أي تعامل سويّ بين الأفراد، وغيابها يستتبع مسؤولية من نوع ما. وحيث تكتسب الأبعاد النفسية والوجدانية اهتماماً متزايداً في المجتمع الأميركي، بما ينعكس على أنظمته المختلفة، ومن ضمنها النظام القانوني، تأخذ المحكمة، خصوصاً في القضايا الناجمة عن الإهمال، بالأثر الممتد للحالات العاطفية المتدهورة الناجمة عن فعل المدعى عليه إلى الحد الذي يعتبره مسؤولاً عن كل التبعات المباشرة وغير المباشرة لفعله مهما بدت غريبة أو شاذة أو غير متوقّعة، ضمن ما تدعى “قاعدة قشرة البيضة” (Eggshell Plaintiff Rule).

تعد النية الحسنة أساس أي تعامل سويّ بين الأفراد، وغيابها يستتبع مسؤولية من نوع ما.

يعمل القانون في إطار مجتمع متشابك ومكثف، ويصعب فهمه بمعادلات واضحة وبسيطة. ويأتي بالتالي استجابة لظروفه وبيئته، وبينما لا يستطيع القانون وحده حماية القلوب الحساسة من الكسر، فإن مهمته تتجاوز بالتأكيد مضاعفة الثروات أو زجّ الأشرار وراء القضبان. وقد اختصر قاضي المحكمة العليا الأميركية بين 1902-1932، أوليفر ويندل هولمز، دور القانون في المجتمع الأميركي، بقوله “لا يهدف القانون لدينا إلى معاقبة الخطيئة بقدر ما يهدف إلى درء الآثار المترتبة على ارتكابها”.

لا يمكن حصر الآثار الناجمة عن كسر قلب شخص حساس، فبينما يعاني بعضهم من آثار مؤقتة، كالبكاء أو احتقار الذات أو العزوف عن الطعام، تمتدّ الآثار عند آخرين إلى حالات اكتئابٍ حاد ومحاولات انتحار. ولهذا السبب، تعد هذه الناحية من القواعد القانونية ضبابية ومتشعبة وضاربة في عمق المجتمع وأزمات الأفراد، حيث عادة ما يمتد أثر الفعل الجارح ليطاول دائرةً متسعةً من الأفراد، وينعكس في سلوكياتٍ لا يمكن التنبؤ بها. وتتجه دراسات نفسية أميركية كثيرة إلى فحص العلاقة بين الأشخاص الذين يعانون من حساسية مفرطة والسلوكيات الاجتماعية الجارحة في مصداق للشبه بين الأشخاص غير المحصنين نفسياً (vulnerable) وبين القنافذ التي تطلق أشواكها كلما شعرت بخطر، أو حتى ألواح الزجاج التي ما إن تُكسَر، حتى تتحوّل إلى أداة إيذاء بذاتها. ويظهر هذا الأثر العكسي من التحوّل إلى الشر، أو محاولة تحصين الذات، بإيذاء الآخرين، على الرغم من دراميته وتطرّفه، جلياً في أعمال أدبية ودرامية كثيرة. وقد أظهرت دراسة أجرتها مؤسسة ديتش ذا ليبل الأميركية في 2018 أن الأشخاص الذين يتعرّضون للإيذاء النفسي في مرحلة من حياتهم يصبحون عرضة للتحوّل إلى متنمرين أكثر بمرتين من سواهم، إذ يأتي التنمّر آلية دفاع عن النفس، ويتحوّل إيذاء الآخرين إلى نوع من المناعة ضد التعرّض لأذاهم، وهو ما عبّر عنه ميخائيل ليرمنتوف في روايته “بطل من هذا الزمان”، على لسان بتشورين، في حوار بينه وبين الأميرة ماري “.. كنتُ أحس بالخير والشر إحساساً عميقاً، ولكن أحداً لم يعطف عليّ، بل كانوا جميعاً يؤذونني، فأصبحت حقوداً أحبّ الانتقام، وكنت مهيّأً لأحب جميع الناس، فلم يفهمني أحد، فتعلّمتُ الكره…”. وعلى الرغم من بعد القانون الظاهري عن المصطلحات غير الثابتة للأدب وعلم النفس، وحاجته إلى الاستقرار والوضوح، فإن المادة الأساسية لكليهما واحدة “الإنسان الفرد”. وبينما يعبّر الأدب وعلم النفس عن أزمة الفرد وأسئلته العظيمة، يتحرّى القانون سعادته وأساسات وجوده ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

العربي الجديد

عماد تاج الدين

تعليق